من طغاة العالم :
جنكيز خان قاهر المدن
(جريدة تشرين)
لعل أدق لقب أطلق على جنكيز خان (الملعون) تسمية دونها أئمة الإمبراطورية الفارسية التي اجتاحها هذا الطاغية منذ (7) قرون ، فتغلغلت جحافله إلى الصين و الشرق الأوسط و القفقاس تدك المدن دكاً و تقشط الأرض قشطاً ، تعبير يصح استعماله و ليس فيه مبالغة على الإطلاق بعد اتباع سياسة الأرض المحروقة .
فالبلاد التي يكتسحها تباد بطريقة يصعب إعادة معالمها التي صهرت الأوامر تصدر بحرق كل ما هو ساكن و ذبح وقتل كل ما تبقى .
كان الجند المنغول يزهقون الأرواح في أصغر شبر تطأه قدمهم ليحموا أنفسهم من أي انتقام محتمل قد يحاك ضدهم في الخفاء .
أعدادهم الغازية تفوق سكان أي مدينة يحتلونها لذا لم يشعروا بالغربة أينما حلوا . وأول بقعة يغزونها تكون عرضة لإبادة جماعية لتكون عبرة لكل من تسوغ له نفسه بالتمرد في الأقاليم المجاورة المرتقب اقتحامها .
تلك الخطة استراتيجية جنكيز خان في القتال .. كان احتلال المدن يتم إما بحصارها أو باللجوء إلى الحيلة و الغدر فيوجه نداء إلى الأهالي يشمل النساء و الرجال على السواء بالتجمع عند البوابات المنتشرة و يبدأ الجنود المنغول بانتقاء الرجال ذوي الحرف و المهن المفيدة تمهيداً لنفيهم إلى منغوليا و أقوياء البنية يؤسرون كعبيد أو مرتزقة يحشرونهم في صفوف المعارك الأمامية و الأعداد الباقية تقطع رؤوسهم و تكدس بشكل هرمي .
أما النساء فكانت تغتصب قبل أن ترسل للخدمة في البيوت في أبشع صور الرق أو توزع كمحظيات و جوار في قصور الأسياد و المتبقيات منهن اللواتي يحملن أطفالاً رضعاً تشحذ رقابهن بالسيوف مع الأطفال دون استثناء .
وفي إحدى الغزوات أقدمت 60 ألف امرأة بإلقاء أنفسهن عبر النوافذ أو من فوق البوابات الشاهقة كي لا يصبحن لقمة سائغة في قبضة المنغول .
وسرعان ما يتحول السكان إلى آكلي لحوم الجثث بعد أن تجرد مدنهم من خيراتها .
ويعتبر الزحف المنغولي من أهم الأحداث التاريخية خلال الألف سنة الأخيرة فبالإضافة إلى الخراب و الفناء الذي يخلفونه فقد اختلطوا بعوالم أخرى و نقلوا أمراضاً انفردوا بها لم تعرفها البشرية من قبل .
أما جنكيز خان فهو لقب أطلق عليه و معناه اللغوي (المقاتل الفذ) و اسمه الحقيقي (تيموشين يسكاي) نسبة إلى جده ، ولد عام 1162 في منغوليا في قرية على ضفاف نهر (أدنون) تحتضنها سهول فسيحة لتشكل التقاء بين غابات سيبيريا في الشمال و صحراء غوبي جنوباً كان والده شيخ قبيلة و جماعته شرذمة من البدو و المنغول الرحل لم يعرفوا حياة الاستقرار ولا الولاء للأرض بسبب ترحالهم المستمر ولم يقيموا وزناً للمعايير الأخلاقية.
و بولادة تيموشين تنبأ وجهاء القبائل بأن للطفل مستقبلاً باهراً و شأناً عظيماً لوجود وحمة حمراء قانية على ذراعه ، إنها علامة فارقة تحمل المجد و هو اعتقاد كان مترسخاً آنذاك .
و المنغول عرق لا يوجد في تراثه إلا الخرافات و ليس لديهم عقيدة دينية ثابتة و يؤمنون بالأساطير و السحر و التعويذات و يعبدون الإله (تيفري) و أكثر ما يقدسونه قمم الجبال الشاهقة و منابع المياه ، وللماء قدسية خاصة في معتقداتهم و لا يجوز تدنيس طهارتها بطهو الطعام و غسل الثياب .
فكانت ملابسهم تهترئ على أجسادهم و تنبعث منهم رائحة نتنة كالجيف و يكتفون بشوي طرائدهم و يعزون أصلهم إلى أسطورة ذرية (الذئاب الزرقاء) المنتشرة على نطاق واسع في منطقتهم الجليدية حيث تنخفض درجة الحرارة إلى ناقص 42 درجة مئوية .
ترعرع الفتى تيموشين في كنف والدته بعد موت أبيه و هو غلام صغير تشد من أزره فقد تميزت بالصرامة و حصافة الرأي و بالرغم من أن المجتمع المنغولي يجيز تعدد الزوجات دون تحديد فإن للمرأة احتراماً و رأياً نافذاً فنشأ الصبي على القتال منذ نعومة أظفاره و أخذ مكانته كشيخ قبيلة فيما بعد خليفة لوالده و بقي على مدى ثلاثين عاماً يشن الغزوات المحلية على القبائل المجاورة و يدمجها تحت لوائه و بحلول عام 1206 م اطمأن إلى قوته العسكرية و بكل جسارة و ثقة أطلق على نفسه تسمية (الإمبراطور) و باركت أتباعه هذه الخطوة مضيفة له لقباً آخر هو جنكيز خان أو المقاتل الفذ و دونه التاريخ تحت هذا اللقب .
بعد هذه الإنجازات أصبح له رصيد عسكري لا يستهان به و قد كتب المؤرخون بأن قواته كانت تخضع لتدريبات شاقة مميزة ، و لشرب المسكرات دور هام في غزواتهم و يتعاطونه إلى حد الثمالة وهو عبارة عن لبن الفرس يخمرونه بطريقة خاصة بهم و أثناء تأدية القسم العسكري يشربون مقداراً من دم الخيول التي يذبحونها في طقوس دينية كقرابين و عربون عهد وولاء للقائد جنكيز خان .
و المنغول من الشعوب التي تتغذى على اللحوم و لا يميزون بين جرذ أو أرنب أو ذئب و يتلذذون بمضغها نيئة و لعل أشهر ما تميز به المنغول موسم الصيد الطويل الذي يمتد إلى ثلاثة أشهر فالجيش ينفذ أوامر الاستنفار بهذه المناسبة بالإضافة إلى أعداد كبيرة من العبيد و المساعدين حتى تصل حشودهم إلى 120 ألف نسمة فتقام الحصون على مسافات تتجاوز آلاف الأميال و يبدأ القنص الكبير فوق التلال و داخل الغابات و قد جاء في أحد الكتب الوثائقية عن هول هذا المشهد .
المنظر يفوق للعقل أن يتصوره ، الذئاب و الأسود و الدببة و الثيران حيث تحضر حيوانات الإقليم كلها و تساق بأعدادها الهائلة التي تربو على مئات الألوف لتحاصر في بقعة لا تزيد على 9 أميال و يمنع قتلها ريثما يأتي القائد جنكيز خان مع بطانته و زوجاته و يتربع محاطاً بحاشيته و بانتظار إشارة من يده يشرعون بنحر الحيوانات و سلخ جلودها و تقطيع أوصالها و توزع الطرائد حصصاً على الجموع المحتشدة ، إن موسم الصيد المنغولي يفوق وصف الأساطير.
لكن الحدث الأعظم هو زحفه إلى الصين يشده في هذا الغزو ، توقه لإذلال سلالة الجورش الذين يعتبرون أنفسهم أسياد المنغول لا سيما أن إمبراطورها (كوشلك) تمكن من الفرار من منغوليا بمساعدة التتر و بمؤازرة الفرس له أصبح حاكم الصين .
إنه عدو جنكيز خان اللدود بل شوكة تنغص حياته ، كانت حملة عسكرية موفقة لم تسفك فيها الدماء فالرعب و الهول الذي يبثه المنغول في النفوس ، و الفرائص التي ترتعد بمجرد ذكر اسمهم تجعل أي حاكم يقبل بالحلول الدبلوماسية إذا كان إلى ذلك سبيل .
حاصرت جحافل جنكيز خان المدينة و أطبقت على مراكزها الإستراتيجية فهرع الإمبراطور ((كوشلك)) للقاء القائد المنغولي في أحد القلاع و اجتمعا وجهاً لوجه .
جهر جنكيز خان بشروطه : (( هاأنا هنا بإرادة السماء و أمام قوتي أنت مخلوق ضعيف لكنني أتراجع عن غزوتي إذا فتحت خزائن بلادك أمام جنودي ليأخذوا ما تشتهيه نفوسهم من أموال و نفائس و خيرات )) .
و دون تردد وافق الإمبراطور الصيني مصافحاً فاتح الصين . اتخذ لاستقبال الجيوش المنغولية 3000 رأس خيل و حمل أميرتين في سلالة الجورش و 500 فتى و فتاة و قطعاناً لا تحصى من الجمال البيضاء و انتشر المنغول ينهبون دون رادع ولا رقيب بينما عاد جنكيز خان إلى منغوليا ظافراً ، لقد تحقق حلمه بإذلال إمبراطور الصين .
لم تتحمل الأقليات من التتر و الكينان هذه الصفعة فبدأوا يحيكون المؤامرات للإطاحة بالإمبراطور الذليل و طلبوا مساعدة الفرس و تسربت أخبار الانتفاضة إلى جنكيز خان فسارع إلى غزو الصين مرة أخرى و هاهو الإمبراطور ثانية في قبضته و لا سبيل إلى المفاوضات هذه المرة .
أدرك الإمبراطور أنه هالك لا محالة فأقدم جنكيز خان على خنقه تحت أثقال من السجاد ، فمن المبادئ المنغولية أنه لا يجوز لدماء النبلاء أن تسيل على الأرض ، تلك العادات كانت متبعة و منها أيضاً شنقهم بخيط حريري أو دفنهم أحياء .